الأربعاء، 28 مايو 2014

ستون عاماً

ستون عاما والدروب لا تسألني عن اسمي، ستون عاما والحروب تسكنني، أكون أو لا أكون ... حاولت مرارا أن أهرب من وتدي الميلاد والموت ما بين رحم القبر ورحم الأنثى التي ولدتني، ستون عاما تكسوني كالكفن لكنها لم تكن بيضاء، أناديها الآن ...
- ايتها السنوات المريرة تقدمي لنقيم المقصلة...
لكن سنواتي لا تلين...، ستون عاما... تتكرر على الصفحة البيضاء كلما مددت لها يدي تأوهت وفرت من بين أصابعي... حاولت استرجاع كل اللحظات النافرة في درب هذه الحياة فوجدتها ناصعة وحزينة ولا تحتمل فكرة التغيير، ستون ....
- .....
كان اسمي لكنه اختفى ...تبخر في الهواء وكأنه وهم... هل أرد ؟؟ وما معنى أن أرد على اسم تبخر في الهواء دون أثر ما ؟؟ ما معنى أن يناديني أحد ما ؟؟
هل هي زوجتي ؟؟ آه تذكرت زوجتي ليست هنا..بل هي لم تكن هنا ابدا ... كانت تمر على عمري للحظات ثم تغيب... وكنت اطالعها تتغير واصمت... هل يستطيع الرجل ان يسأل زوجته لماذا  تصبح أجمل كلمّا غاب ؟؟؟؟ هذا سخف وربي لذا لم اسأل.. لكن اسمي الذي تبخر  ما زال يحاول الظهور والانتماء إليّ...
ربما هي زوجتي التي بدأت تصبح أجمل بعيدا عني .. وما أدراني... ربما عليّ أن أحاول استعادة الصوت لأعرف... لكن الصوت كان محايدا .. كان فقط يشبه حروف اسمي... الحرف له كيانه مثلما لي عمر وجسد... يا إلهي لقد تذكرت الجسد... نهضت سريعا..(حسنا أن أتحدث عن نفسي لا لأخبر نفسي بل لأخبركم أنتم قراء وصيتي الأخيرة) نهضت سريعا ونظرت في المرآة ... كنت طويلا نوعا ما ولدي جسد رجل ستيني لكني كنت أملك تلك الابتسامة التي تغري النساء ...ولي عينان أعرف فضولهما الذي يأسر  الآخر.. ولكن عن أي آخر أتحدث.. حسنا لا بأس الاسم الذي تبخر لم يكن يشبهني هذا ما اعتقدته للوهلة الأولى لولا أنني نظرت حولي وعدت لاعتقادي أن أحداً ما كان يناديني ولولا تبخر اسمي لكنت أجبته...
- ...
هذه المرة تبينت الصوت .. لم يكن يشبه الحروف بل كان يشبه صوت أمي.. لأمي صوت مميز يشبهها تماما، صوت عندما تسمعه تشعر وكأنك على باب كهف أو بئر ..صوت أمي تغير . كان في صغري يشبه ذراعين، أما الآن فهو عميق مجوف، حسنا لماذا لا أجيب ..؟؟
- أنا هنا يا  أمي  ، فقط أمهليني حتى أعدّ عمري ..
- انتظر قليلا ريثما أعد بعض الحلوى لتأخذها معك ..
آه لقد نسيت أمي أنني لن أغادر وأنني ستيني وأن مدرستي لن تفتح أبوابها قبل خمسين عاما من الآن ... لكن
- حلوى..حلوى...
عدت طفلا وقفزت في الهواء، وأخذت أشم رائحة الحلوى اللذيذة، وعاد صوتي الطفولي يصيح ثانية ..حلوى حلوى .....
سمعت ضحكة أمي فخجلت . كانت المرآة تسخر مني... فأنا واقف أمامها بستين سنة وصوت طفل يفرح بحلوى تعدها أمه ...
- ...
حسنا هذه المرة عرفت اسمي وملامحه قبل أن يتبخر، وعرفت الصوت أيضا وكان صوت أبي هذه المرة، وكنت أعرف أنه سيناديني .. كان صوته دائما يأتي متأخرا ليزجرني عن التأخر وينهى أمي عن تدليلها لي...
- حاضر يا أبي .
كدت أنسى أنني أرتدي ملابس النوم، وكدت أبحث عن جيب بنطالي الصغير وحذائي الملون... اللعنة لماذا تتحرك سنواتي بهذا الشكل المحموم للأمام وللخلف وكأننا في إحدى الألعاب التي كنت أمقتها أيام طفولتي ؟؟
-         أبي....
صرخت لكن أحدهم أمسك بيدي .. التفت ، لم أجد أحداً، كانت الغرفة ساكنة، الجدار لا يعكس سوى بياضه، لكن الأصابع القابضة على يدي تؤلمني، قلت بصوتي الطفولي : أريد أبي...
أتاني صوت لم أعد أتلمس ملامحه : أبوك مات يا ولد ويجب أن تتصرف كالكبار..
بكيت وضربت الحائط بيدي : أريد أبي... أريد أبي...
التفت ثانية . الجدار كان ساكنا جدا، البياض فيه أكثر صمتا من قبل، يدي الان متحررة من الأصابع الخفية، تحركت واستدرت حول نفسي، كان الحائط يعكس طول قامتي، راقبت ظلي، كان يمشي قربه ظل آخر، آآآآآآآآآآآه
: أنتِ هنا ؟ ... تحرك ظلها متجها إليّ ،  قالت بصوتها المغناج : نعم ...
تعانق الظلان... تبادلا القبل، وفجأة لغبائي الشديد استدرت لأنظر حولي .. لم يكن هناك أحد، عدت للجدار لم يكن هناك ظل سوى ظلي وسنوات عمري.

ليست هناك تعليقات: