الأربعاء، 28 مايو 2014

ستون عاماً

ستون عاما والدروب لا تسألني عن اسمي، ستون عاما والحروب تسكنني، أكون أو لا أكون ... حاولت مرارا أن أهرب من وتدي الميلاد والموت ما بين رحم القبر ورحم الأنثى التي ولدتني، ستون عاما تكسوني كالكفن لكنها لم تكن بيضاء، أناديها الآن ...
- ايتها السنوات المريرة تقدمي لنقيم المقصلة...
لكن سنواتي لا تلين...، ستون عاما... تتكرر على الصفحة البيضاء كلما مددت لها يدي تأوهت وفرت من بين أصابعي... حاولت استرجاع كل اللحظات النافرة في درب هذه الحياة فوجدتها ناصعة وحزينة ولا تحتمل فكرة التغيير، ستون ....
- .....
كان اسمي لكنه اختفى ...تبخر في الهواء وكأنه وهم... هل أرد ؟؟ وما معنى أن أرد على اسم تبخر في الهواء دون أثر ما ؟؟ ما معنى أن يناديني أحد ما ؟؟
هل هي زوجتي ؟؟ آه تذكرت زوجتي ليست هنا..بل هي لم تكن هنا ابدا ... كانت تمر على عمري للحظات ثم تغيب... وكنت اطالعها تتغير واصمت... هل يستطيع الرجل ان يسأل زوجته لماذا  تصبح أجمل كلمّا غاب ؟؟؟؟ هذا سخف وربي لذا لم اسأل.. لكن اسمي الذي تبخر  ما زال يحاول الظهور والانتماء إليّ...
ربما هي زوجتي التي بدأت تصبح أجمل بعيدا عني .. وما أدراني... ربما عليّ أن أحاول استعادة الصوت لأعرف... لكن الصوت كان محايدا .. كان فقط يشبه حروف اسمي... الحرف له كيانه مثلما لي عمر وجسد... يا إلهي لقد تذكرت الجسد... نهضت سريعا..(حسنا أن أتحدث عن نفسي لا لأخبر نفسي بل لأخبركم أنتم قراء وصيتي الأخيرة) نهضت سريعا ونظرت في المرآة ... كنت طويلا نوعا ما ولدي جسد رجل ستيني لكني كنت أملك تلك الابتسامة التي تغري النساء ...ولي عينان أعرف فضولهما الذي يأسر  الآخر.. ولكن عن أي آخر أتحدث.. حسنا لا بأس الاسم الذي تبخر لم يكن يشبهني هذا ما اعتقدته للوهلة الأولى لولا أنني نظرت حولي وعدت لاعتقادي أن أحداً ما كان يناديني ولولا تبخر اسمي لكنت أجبته...
- ...
هذه المرة تبينت الصوت .. لم يكن يشبه الحروف بل كان يشبه صوت أمي.. لأمي صوت مميز يشبهها تماما، صوت عندما تسمعه تشعر وكأنك على باب كهف أو بئر ..صوت أمي تغير . كان في صغري يشبه ذراعين، أما الآن فهو عميق مجوف، حسنا لماذا لا أجيب ..؟؟
- أنا هنا يا  أمي  ، فقط أمهليني حتى أعدّ عمري ..
- انتظر قليلا ريثما أعد بعض الحلوى لتأخذها معك ..
آه لقد نسيت أمي أنني لن أغادر وأنني ستيني وأن مدرستي لن تفتح أبوابها قبل خمسين عاما من الآن ... لكن
- حلوى..حلوى...
عدت طفلا وقفزت في الهواء، وأخذت أشم رائحة الحلوى اللذيذة، وعاد صوتي الطفولي يصيح ثانية ..حلوى حلوى .....
سمعت ضحكة أمي فخجلت . كانت المرآة تسخر مني... فأنا واقف أمامها بستين سنة وصوت طفل يفرح بحلوى تعدها أمه ...
- ...
حسنا هذه المرة عرفت اسمي وملامحه قبل أن يتبخر، وعرفت الصوت أيضا وكان صوت أبي هذه المرة، وكنت أعرف أنه سيناديني .. كان صوته دائما يأتي متأخرا ليزجرني عن التأخر وينهى أمي عن تدليلها لي...
- حاضر يا أبي .
كدت أنسى أنني أرتدي ملابس النوم، وكدت أبحث عن جيب بنطالي الصغير وحذائي الملون... اللعنة لماذا تتحرك سنواتي بهذا الشكل المحموم للأمام وللخلف وكأننا في إحدى الألعاب التي كنت أمقتها أيام طفولتي ؟؟
-         أبي....
صرخت لكن أحدهم أمسك بيدي .. التفت ، لم أجد أحداً، كانت الغرفة ساكنة، الجدار لا يعكس سوى بياضه، لكن الأصابع القابضة على يدي تؤلمني، قلت بصوتي الطفولي : أريد أبي...
أتاني صوت لم أعد أتلمس ملامحه : أبوك مات يا ولد ويجب أن تتصرف كالكبار..
بكيت وضربت الحائط بيدي : أريد أبي... أريد أبي...
التفت ثانية . الجدار كان ساكنا جدا، البياض فيه أكثر صمتا من قبل، يدي الان متحررة من الأصابع الخفية، تحركت واستدرت حول نفسي، كان الحائط يعكس طول قامتي، راقبت ظلي، كان يمشي قربه ظل آخر، آآآآآآآآآآآه
: أنتِ هنا ؟ ... تحرك ظلها متجها إليّ ،  قالت بصوتها المغناج : نعم ...
تعانق الظلان... تبادلا القبل، وفجأة لغبائي الشديد استدرت لأنظر حولي .. لم يكن هناك أحد، عدت للجدار لم يكن هناك ظل سوى ظلي وسنوات عمري.

الخميس، 30 أكتوبر 2008

لقاء ....



- من أي نبع قصيِّ أتتكَ الكلمات لترسمني سحابة ثم تطلقني في الزرقة الغادرة ...وتمضي ؟
- هذه كفي اقرئيها
- الطين لا يلقي بالا لومض العيون الباحثة عن ظل لها
تداعت الكلمات حولنا، مدت رأسها تحاول النظر لكنها وقعت فوق بعضها البعض...كالزواحف المقتولة، كنتَ لا تراني... وعيوني تبحثان عنك...
- ماذا تشربان ؟
قال النادل ورحل مذعورا، كاد يقسم أن على الطاولة ظل نسرين ومطر تفجرت دماؤه، لولا أن صاحب المطعم صرخ في وجهه (انزل الطلبات كفاك ثرثرة)
مال رأسك المتعب يستند إلى الفراغ فأخذته بين ذراعي، وكنت تصغي لثرثرة النهد في ذبوله الأخير حين فاجأتك بيدي الممدودة لتحية الانصراف، لكن الكلمات صعدت على أقدامنا كجيوش نمل حمراء... لمحتك تحاول عبثا أن تبعدها، لكنها وصلت لشفاهنا، رأيتها تحاول العبور إلى الرئتين، كنا شفافين كالماء المسفوح في الصحراء
- هو سراب...يا ح ب ي ب ت ي
ماتت الكلمة لكني رأيتها تشبه بقايا بلل اغتالته الشمس الحارقة... لتكف تجاعيد الثوب عن تلوين نظرات الآخرين لك، الحرف الأخير تعلق في إصبع الهواء كيد طفل حديث الولادة
- تعبرين الجسور كالطيف...
- سنموت أن لم نحلم.
صمتنا ثانية... كفت جيوش النمل عن افتراس الفراغات المحكمة في الجدار الماثل أمامنا..أمد أصابعي إلى دفترنا المسفوح عليه ظل الروح وتاريخ النطفة ... أمد يدي لأغلقه لكنك تحفظ الكلمات عن ظهر قلب...
أخاف من عينيك فاهرب... عجوز يتعثر في كلماتك التي نثرتها نظراتي المذعورة ... لكنه لا ينتبه يظن أن عكازه لم يعد مخلصا له كما يجب... أعود إليك ..
- الحب مرض...
- لا تودين أن تسمعي الشعر هذا اليوم ؟
- ........
مثلوم نصل الكلمات هذا اليوم فقلبي تمزقه نية السيف وتبعثره مسافات الحنين الفارغة ...
- دعيني أقبل يدك...
انظر وأصاب بالفزع .. أين يدي ؟؟ أنظر ثانية شفتيك غابت ! قال النادل :
- تفضلا...
في كأسي كانت هناك قبلة تطفو ميته... وفي كأسك كانت هناك يد مقطوعة...لكنك شربت العصير مغمض العينين ففعلت مثلك
- ......
- ......
من منا كان بلا صوتين ؟؟ من منا سيمضي قبلا... قال النادل ثانية : شيء آخر ؟
قلتَ : قهوة
قلتُ : سوداء بلا سكر أو حليب....
على شفتيك كان السكر ينحني بضجر مريب، راقبتني أحرك قهوتي ليذوب فيها بعض من شفتيك، راقبتك تأخذ مرارة من قلبي وتحلي بها قهوتك...
- القاتل والقتيل؟؟
- الموتى لا يبعثون قبل أوانهم ...
- سيذهبون إلى عماء الحكايات القديمة...
لمحت الكلمات أخيرا تركن للهدوء، تجلس قربنا، ننهي احتساء القهوة وننصرف، كنت قربي وكنت أرى ظل عناق مقتول على الرصيف...
- لم يأت حديثنا بجديد...
- كنا نجتر الذكريات ؟؟
- هو اللقاء الأخير .......!
كنت أراقبك وكلماتك تقفز حولي، قصيدتك ترقص في قلبي المذبوح رقصة جنائزية، لكنها فاتنة في ثوبها الأسود.. هل ستنهي الرقصة جالسة أم ممددة كالضحية ؟؟
وصلنا إلى سيارتي قلت لي (...........) ماذا قلت لي ؟؟ لقد نسيت لكني أذكر أنك ربما صفعت الهواء بقرب روحي ومضيت...
قدت سيارتي قرب ظلك ولم ترني وأنا أعبر آلاف الجسور الميتة أطل منها على ملايين الكلمات التي تنتظر دورها جورا أمام مقصلة أنشأتها قلوب لا تعرفنا ...لكنها تحنو على طريقنا العادي الطويل...

الجمعة، 5 سبتمبر 2008

المفتاح



لمن الجأ اليوم يا أمي ولمن أتوجه بالبكاء؟ .. لست أعشق الموت ولا أريد أن أحيا بهذا الخراب. الروح تختنق ووجه الشمس يبتعد في غيوم بلهاء ترسم أشكالا مبهمة، يقول البعض أنها رسم سريالي بينما يدعي آخرون أنها وجه آخر للحرية.

لمن أتجه بالبكاء والقلب يحترق كلما حاولت اللجوء إلى عينيك المفعمتين بالصدق، رغم كل تلك القسوة، رأيتك مرارا تبكين صامته على وسادتك المزركشة بأزهار وطيور وتعجبت كيف أنك استطعت أن ترسمي كل ذلك الجمال بيدين لم تعرف الرسم أو الكتابة، أذكر بهجتك الطفولية عندما أعطيتك دفتري الصغير وقلت لك هذا هو اسمك وهذا اسم بلدنا، وضعت حينها يدك على الوطن

وقلت : هاي بلدنا ؟

وكأنك تستغربين أن تكون الكلمة بهذا الحجم المحايد الصغير، آه يا أمي، كلنا نبدأ أكبر من ذواتنا وتسجننا الأسماء في مغلفات صغيرة تشبه الرسائل الخادعة، الرسائل المكتوبة على عجل كالتلغراف، لقد كرهت الرسائل حين فقدت طعم الحريق، أنت لا تعرفين كيف تكون الرسائل بطعم الحريق لأنك لم تجربي الرسائل القاتلة أو المحلقة كالطيور..


لكن لماذا أحدثك اليوم عن الرسائل، وأنا أود الحديث عن الدموع، عن البكاء المسجون في روحي منذ الأزل، عني وعنك وعن هذا الزمان المحاصر، لقد رأيتك طويلا تحاولين أن تفهمي ما هو الحب ولم تدركي أن رغيف الخبز المجبول بالعرق.. أن ثوبك الدافئ الذي تمسكت به طويلا وأنا صغيرة كان هو كل الحب.

لكن الزمان الذي يعجننا كأدوات طيعة أصبح زماناً بلا مشاعر، ها أنا اليوم وبعد ثلاثين عاما من الغربة والضياع أجمع أشيائي الصغيرة وأحتار إلى أي الجهات علي أن أسير، إلى أي الدروب.

حزمت أمتعتي، وتركت دفتري الصغير، الدفتر الذي حاولت أن أعلمك فيه الكتابة لأجعلك تدخلين إلى عالم الكلمة الرائع، لكنك فشلت في هذا وقلت أنني لا أجيد سوى الاعتناء بكم، لكنك كنت تجيدين كل شيء حتى الكتابة..

الكلمات التي تتدحرج على السطور كلما احترقت روحي هي أنت يا أمي، الوجه الذي أراه كلما تراءى لي الوطن البعيد هو وجهك، لكنك اليوم بعيدة، أجمع أشيائي كلها وأترك في الزوايا بعض الذكريات، تركت له أيضا رسالتي الأخيرة لأنني لم أعد أجيد الحب المفتعل، لم أعد أستطيع أن أمارس جنوني المسجون خلف هذا الموت.


طلب مني أن أبقى وأن نحاول إنجاب طفل آخر، لكن كيف أفعل ذلك وأنا لم أعد قادرة حتى على الحلم، أنت قلت لي يا ابنتي المرأة لزوجها، وكنت له.

تركت نفسي تسير كالمسحورة معه، ولم أصغ لصوت الفتاة الصغيرة في داخلي، في ذلك اليوم همست لي مرارا اتركي كل شيء واذهبي، عرفت أنني لا أنتمي إليه أو إلى أي مكان في هذا الجحيم لكنني لم أصغ، أنا أعرف أنك أنت أيضا لم تصغي، أتذكرين تلك الكلمات التي قرأتها لك ذات يوم عن امرأة كرهت البحر؟


أنا أكره البحر يا أمي، رغم روحي المشتتة في الزبد، أكره البحر الذي امتنع عني، المرأة التي كرهت البحر كرهته خوفا منه أما أنا فكرهته لأنني أفتقد طعم المغامرة، لماذا يا أمي أكره الهدوء، لماذا لا أكون مثلك، لماذا لا تنقلب الجرة في عرفك لماذا ؟


كان المفتاح القديم معلقا كالتعويذة في عنقك، يسقط أمامك كلما انحنيت ويسرق منك طعم البسمة الزائفة، المفتاح الذي وعدتني به، قلت هو لك وهمست لك لا أريد سواه.

المفتاح يحز رقبتي كلما أمعنت في هذه الحياة، زوجي تذمر منه مرارا، قال :- أريدك عارية في فراشي، لكن المفتاح بقي ما بيننا حتى انتهت حياتنا بالطلاق، أنا لا أخاف كلمة الطلاق مثلك يا أمي، كنت تقولين الطلاق خراب كبير، لكن الخراب الأكبر أن نمضي بهذه الحياة بلا أمل ، زوجي كره المفتاح فشعرت أن ما بيننا أكبر من كل الأبواب التي تركناها خلفنا، هاهي أشيائي الصغيرة ، بعض الدفاتر والأقلام والذكريات والرسائل، بطاقات دخول وكتيبات صغيرة.


أحب أن أجمع الذكريات وكأنني أخاف الموت، هذا ما أدركته مؤخرا وهذه الفكرة لم تعجب زوجي، قال أنت تحبين الأشياء القديمة فحسب لكنه كرهني حقا عندما أخبرته أن إحدى هذه الأشياء القديمة كانت ذكرى حب أول، الحقيقة يا أمي لم أكن أجرؤ أن أجرح أي إنسان لكنني في ذلك اليوم قررت أن علي أن أثأر لكن ممن ؟ لم يكن هناك حب أول، وليس من المفترض أن يكون، هناك حب فحسب، اجل يجب أن نحيا بالحب، فلماذا نصنفه أولا وثانيا وعاشرا.


أتذكرين عندما أخبرتك بأنني لم أعد أؤمن بالحب لأنه لم يأت، ولم تفهمي كيف لم يأت وأنا على وشك الزواج، أنا الآن أبتسم رغم دموعي، يستطيع الحب أن لا يأتي ونستطيع أن نتزوج وننجب ونكبر حتى الموت، أنت مثلا كرهت كل المزاح السخيف الذي مارسه أبى ضدك، وكرهت تأخره بلا سبب، كرهت تذمره من الطعام الذي تطبخينه، كرهت رائحة التبغ في أنفاسه، وكرهت طريقة حديثة معك أمام الناس، لم يأت الحب ومع ذلك أتينا نحن، ولم تحتج مرة واحدة، مضيت بالحياة حتى آخرها، أما أنا يا أمي فلا أصلح لهذا التراث الهائل من الصمت والحزن، أنا لم اعد أطيق الدموع، زوجي لم يعد يفهمني بل لم يعد حتى يرغب بالمحاولة وعوض أن يبحث عن مخرج، يريدنا أن نأتي بروح أخرى لهذا الحياة.


لكن لماذا أحدثك الآن بهذه الكلمات؟ بالأمس رأيت الوطن، كان على وجه إحدى المحلات صورة قبة ذهبية وطفلا يحمل حجرا، نحن يا أمي نتحول إلى رموز حين نحلم بالحياة، هل علينا أن نحيا صورا فقط ؟ أنا لن اسمح لإبني بأن يتحول إلى رمز، أريده قلبا نابضا، الموت لا يناسبنا يا أمي، طفلي سيسامحني لأنني رفضته الآن، لأنني اخترت له أبا لم يدخل حياتي بعد، واخترت له حياة أكثر قسوة، أجمع أشيائي يا أمي لأنني لا أنتمي لهذا المكان الميت، أجمع شتات روحي وأمضي، مفتاحك في عنقي يأخذني كالضبع إلى مغارته السرية، وأنا أرفض أن أضرب رأسي بباب المغارة.

أتذكرين يا أمي، الدم ينقذنا من مصيرنا المحتوم بين أنياب الضبع، أنا ارفض الدم لأنني أرفض النجاة ، أسير خلف مفتاحك وكأنه حقيقة الكون من حولي، أترك الوهم والصمت، أترك البيت الذي سجن روحي، والرجل الذي لم يستطع أن يحبني رغم أنه أخذني مرارا، وردد الكلمات كالشعار، أنا يا أمي امرأة متوحشة، أخذتني الحياة إلى تجارب عديدة، لا أؤمن إلا بما أشعر، قلبي يتسع للمأساة والملهاة ويتسع للحب أيضا، أنا أحب يا أمي ، أحبك وأحب الحياة والناس وهذا الباب الذي لم أر منه سوى مفتاحه القديم، يا أمي عليك أن تغضبي مني الآن، وأن تجعليني أطلب منك السماح، عليك أن تقولي أنني مجنونة لأنني تركت زوجا هادئ الطباع لا يشبه أبى، وبيتا واسعا، أنت تحبين البيوت الواسعة، أعرف لأنني أعرفك تماما، عليك يا أمي أن تقولي ما تشائين، أن تغضبي وأن تنعتيني بالخبل والجنون، أرجوك يا أمي اصرخي بي، فأنا أستطيع أن أسمع صوتك، الشوارع المكتظة لا تخفي صوتك ولا حتى دوي الطائرة أو دموعي، يا أمي احكمي علي بالعودة من حيث أتيت، اقتليني بهذه الغربة التي اغتالت روحي، اصرخي بي يا أمي أرجوك حتى لا أمضي كالمذعورة إلى بابك القديم وأجلس هناك أنتظر إلى الأبد حبا لا يجيء.

الخميس، 31 يوليو 2008

انعتاق


توغِل الصحراء في روحه، يتسلقهُ الوجع، يفرّ الحلم مبتعداً...ويبقى صوت أمه يشرع في داخله عوالم من عبيرٍ وألم، ظنّ أنّ لـه خلف الحدود وجهاً ليقتنصه، ويعود بالماء وربيع الحقول، لكن الحدود اقتنصته، وهبته للضياع وغادرت.
فشلت الرصاصات في قتله، وتركت الرمال تكتب سيرته، ترسم تفاصيل الوجه والأصابع والشفاه، فما عاد يقدر على المقاومة، خارت ساقه الأولى ثم الثانية، ضمته الصحراء إلى صدرها بحنو رمال متحركة، هي النهاية إذن !!
عاد ظلّ روحه إليه، هل انتهى أمره ؟ فكّر بلا حماس، وأغمض عينيه . فاطمة تشرع أبواب القلب وتأتي، تسأله عن حاله، لكن دون إجابة يأخذ صورتَها إلى غفوته ويبتعد .
صوت رجل : ميّت ؟!
صوت امرأة : لا.
صوت امرأة أخرى : لنمض ..
الأصوات تأتي من مكان بعيد ..
ينصت، لكنّ الأصوات تختفي، فترتفع روحه إلى أعلى، تحاول عيناه الوثوب نحو أفق أرحب، تحاول أخذ حصتها من هذا الوجود، فتحصل على ظلٍّ باهت لوجه يشبه وجه فاطمة لكنه أكثر نضارة وجنوناً.
- يتحسن ؟
- يقاوم .
- ......
صوتان، أما الثالث فيثيره أكثر، يوجعه حتى في صمته، يتململ، يحاول اجتياز الظلمة، يفلح في اقتناص شعاع من الضوء ولمسة يد حانية، وينطفئ من جديد، غيمة رمادية تحلّق في ثنايا الدماغ، تمهّد له سبيل الفرار.........
- شفي ؟
- سيشفى
-.........
أصابعه تحاول عبثاً القبض على الهواء، لكنها تبقى واهنة تتخذ تقوّساً طبيعياً لا يستطيع تغييره، يحاول بحدّة أن يخرج إلى الفضاء الآخر لكن إخفاقه يقتله، توجعه الأصوات، والسواد يحيطه، يغلّفه من الداخل، غابت فاطمة وتقمّصت شكل يد حانية على الجبين المتعب. غابت لتزرع في نفسه الشكّ من الصوت الذي اختفى . مَن هؤلاء الناس .....؟
- .......
- سينجو .
- ......
يد صغيره تزرع جبينه بالبرودة والدفء في آن، وأخرى تتحسّس صدره وكأنّها تبحث عن قلبه، أو.....، يد تأتيه عندما يكون متعباً أكثر أو عندما لا تعود فاطمة إلى جانبه في عتمته المرّة، يد معربدة، ماكرة ........ وخائفه، تقترب بعهر وتتراجع بسرعة عند أقل الأصوات.
- لنمض .
- إنّه يقاوم .
- لنبق .
تشتبك الأصوات، تتصارع مبتعدة، هو ليس هناك، ولكنهم يتجاذبونه ..
- هل مات ؟!
- لا لم يمت .
- .......
فاطمة تخرج من ذاكرته لتحتلّ مكانا بينهم، يناديها فلا تجيب، ولا تعود ذاكرته قادرة على استعادتها، يصاب بالفزع. تبتعد الأصوات، تبدأ عيناه مقاومة شرسة: فاطمة ... يصرخ بلا صوت، يفتش في غيمته الرمادية، ينبش الأفق المغلق أمامه، ويجزع حتى ... الانعتاق ..
يسقط في حدقتيه شعاع، فيحجب عنه الأفق لثوان، ينفصل عنه ظلّه، روحه تهرول نحو الذبول، الحدود تعود ثانية لتئد الحلم، خيمة متهالكة وإناء ماء نصف فارغ. فاطمة ليست هنا، اليد الحانية تركته للموت، حتى اليد الأخرى والصوت،كلّهم تركوه، يصيبه الفزع ، فتغضب عليه الريح تهدّده بالمضي مبتعدة بخيمة وإناء ماء نصف فارغ وظل ما عاد يعرفه.

السبت، 26 يوليو 2008

يوسف



خطوة واحدة تعلن الفرق في هذا الزمان الردئ، خطوة واحدة أعلنت مصيره، يوسف النبي ويوسف الإنسان العادي الذي خرج ذات يوم إلى رحم الحياة بما يشبه الهزيمة....
- قرار أبيك، إما الطلاق وإما الولد فاختار يوسف أن يجئ فكنت أنت.
هذا ما أخبرتني به أمي، لماذا يا يوسف؟ أيها الرائع الذي اختار القرارات الأكثر جدلا وصعوبة. كنا نقف معا في ذلك الزقاق، المح في عينيك تفاصيل وجهها وشوقا عارما، المح في عينيك كل شيء فاركن إلى الهدوء واختار الهوامش البعيدة، لكنك اخترت هذا أيضا. - أنت تحبها
هكذا كنت صارما لا تقبل الجدل أو المساومة وخلال أيام كنت تقودني إلي بيتها، قلت لهم : لكم ما تريدون .
لماذا وقفت دائما في شمس القرار والتزمت صمتا رهيبا إزاء كل ما يتعلق بك ؟ لماذا ؟ - ليس لنا سواك يا يوسف.
قالت أمي، فكنت لنا ولم تكن لنفسك، كنت لنا دائما فلماذا الآن تعلن الرحيل ؟ خطوة واحدة.. هكذا كنت دائما لا تقبل المساومة على أي شيء.
كنا نقف أمام الجدار، أخذوا كل الشباب وكنت أكثرنا صرامة، قلت بنظرة واحدة انتم رجال فكنا كذلك، كان الجندي يكرهك بطريقة لم يعها، أحسبه كان يعرف انك يوسف.

التفت إلي، أخذني وطرحني أرضا، رأيت عرقا في عنقك يكاد ينفجر، قبضتك كادت تتحول إلى انفجار لولا أن امسك بك رفيقي، كنت اعرف انك لن تتوقف عن الاختيار، خطوة واحدة .. قال الجندي :- ستقتلون جميعا إن لم يخرج من بينكم يوسف.
لماذا يجب أن نختار دائما القرارات الأشد صعوبة، تدفق الدم من فمي وانفي، فتقدمت خطوة واحدة أطاحت بالكون من حولي، أمسكت بذراعه وطوحته بالهواء، كنا نعرف جميعا انك قوي لكنك كنت شرسا بصورة لا تصدق، باغتهم جميعا حتى أن لحظات الذهول وحدها رحمتنا جميعا من حمام رصاص. أنهضتني، قلت لي : اعتن بأمي ولا تنس. ومضيت معهم.
لا تنس، صوتك ما يزال يثير هذا الكون من حولي، أنفاسك تعلن خياراتي كلها، خطوة واحدة زلزلت الدنيا، وبقيت أكثرنا وجودا رغم هذه القتامة، هاهو الأفق الرمادي يتحول إلى صحراء وما زلت اسمع قرارك الأخير حادا، وأكثر وجودا من جسدي على هذه الأرض.
- لا تنس.

الخميس، 24 يوليو 2008

طائرة ورقية




مساء آخر يغرب مخلفا وراءه رائحة الحنين لشيء غير غائب، ساحة الدار الأمامية تضج بالصغار وأحاديث النساء، المساء مسح وجه الضجيج بنوع من الشجن وأعاد الأصوات إلى الحناجر ليوم آخر. سعدة وحدها تردم سكون الليل بمكنسة قديمة وكأنها تحاول أن تعيد للساحة وجها آخر غير هذا الصمت. تمسك إبريق الماء وتسكبه في الجهات وكأنها تبحث عن وجه ما .. عن أفق، أفق يعيد بهجة الصغار إلى ساحة البيت، تلقي بالماء بعيدا فيصل إلى أسفل الشجرة الوحيدة التي تتوسط البيت، فتذكرها بحماتها التي آثرت أن تجمع أولادها حولها وعائلاتهم، فتشعر بالذل.


تترك المكنسة والإبريق وتدخل، المكان يبدو أكثر ضيقا وأكثر وحشة، زوجها لم يصل بعد، بطنها المنتفخ يصيبها بالوهن الحزين، تقدمت ببطء لتغسل جسدها مما علق به من تعب هذا اليوم، كانت أصابعها ترتجف وكأنها ستخلع عن جلدها عباءته الآدمية، الثوب المطرز الذي أحضرته من بيت أبيها كالتميمة، ملابسها الحميمة، جسدها الذي أخفته طويلا لتهبه خالصا لأبي العبد، ..جرحتها التسمية، أجفلت، رمت كل ملابسها دفعة واحدة وانحنت لتشعل النار، كانت تجلس عارية تفكر بلا شيء، تطالع أصابع قدميها، أو نافذة الحمام، الباب الخشبي الواهن، صوت الليل .. تأخر بالمجيء، منذ أن علم بالخبر أصبح يتأخر بالمجيء حتى لا يطالع نظرات أمه، وخيبتها، مدت يدها إلى بطنها المنتفخ واحتضنته فبدا وجهها يعاني ألما رهيبا، كانت ترتجف دون أن تعي، تذكرت قطعة العجين التي وضعتها أعلى الباب، كيف تتحول النطفة إلى جسد، والرحم إلى قبر، أجفلها صوت الماء يغلي فارتبكت قليلا، تحركت لتبدأ في سكب الماء على رأسها وجسدها ، الماء أو الدموع من منهما الحقيقي ؟ من يكسو وجهها بهذه الحميمية، لم تدرك كم مر من الوقت حين سمعت صوت الباب الخارجي، مرت ثلاث سنوات على يومها الأول معه، كان متحمسا وكان ينظر إليها وكأن جسدها يفاجئه، انتشلها صوت زوجها من أفكارها.

النافذة تسكب ضوء القمر الشاحب أمامها على البلاط، وجسدها يبدو لها سجنا منفصلا عنها، اخفت خيبتها وجسدها وخرجت

:- أعد العشاء ؟

:- لا.

أرادت أن تقول له شيئا، أي شيء يحطم الجدار الذي بدأ ينمو ويلقي بظلاله عليهما، لكنها طالعت يديه المعروقتين فاستوقفتها أصابعه، يديه التي أحاطت بها مرارا وجلبت لها الخبز والخضار، طال الصمت وسقط كضيف ثقيل فانسحب إلى النوم وبقيت سعدة تتأمل تعاريج ارض الغرفة وأصوات الصبية الذين هجعوا للنوم وبقيت همساتهم تؤنسها، تأملت في خيالها وجوههم جميعا، سماء الصغيرة التي تقود ببراءة شديدة الدمع للمآقي دون أن تدري، سماء التي بكيت طويلا على طائرتها الورقية التي غزت الأفق مرارا قبل أن يفلت الخيط من يدها وتضيع منها بهجتها، سماء التي قالت لها وهي تضع يدها على بطنها المنتفخة

:- ماذا يفعل في الداخل؟

:- الداخل ؟

:- سألعب معه عندما يخرج.

(حسن يضحك من أخته)

:- بلهاء

:- سألعب معه رغما عنك.

:- بلهاء

الأصوات تواكب ساعات الليل، وسعدة تشعر بقلبها المرتجف يخنق النبضات حتى لا يشي بكل ما به من هلع، بقيت تحدق بوجوه وأمكنة لا تخضع لقانون هذا الجدار الباهت حتى أتاها صوت زوجها

:- لم تنامي طوال الليل ؟

:- سنذهب الآن ؟

:- نعم .. المكان بعيد

ارتدت ملابسها على عجل ووضعت له قليلا من الخبز والجبن فأخذها وخرجا، لم تلمح احد، البلاط كان لا يزال رطبا من قطرات سكبتها السماء بالأمس، ووجوه الصغار لا تزال مختبئة تحت الأغطية، غير أن سماء على غير عادتها حضرت مسرعة للباب

:- سيأتي اليوم ؟

كانت ملامحها التي لا تزال مغلفة بالنعاس وشعرها الأشعث يثيران في نفس سعدة شعورا مريرا ويعتصر قلبها بألم لم تدر إذا نجحت في إخفائه.

:- ارجعي للنوم حبيبتي .

ربتت على رأس الصغيرة. نظر أبو العبد إلى سعدة، فتح الباب ثم لحقت به الطريق بدا دهريا، الباص يصعد منحنيات ويتحرك بضجيج جعل جسدها يلتصق بجسد زوجها فشعرت بمرارة طاغية، لم يتحدثا طوال الطريق . كان جسدها يلتقط من جسده كل ما يود قوله فانكمشت على حزنها أكثر. توقف السائق قليلا ليصعد أو ينزل بعض الركاب، وكلما اقترب من المكان شعرت بالخوف يعتصر روحها، عند باب المشفى كادت تسقط من الرهبة، احتضنت بطنها بطريقة لا إرادية وأمسكت بذراع زوجها وكأنها تستنجد به، لكنه تقدم بعد أن رمى سيجارته الرابعة في وجه الطريق.

:- ماذا سيفعلون به؟

:- ....

طلبت منها الطبيبة الانتظار قليلا

:- كنت أتمنى لو أنه نزل طبيعيا .. لن تعاني طويلا...

لم تتابع تصريحات الطبيبة، شعرت بوهن حاد. أسرعت لدورة المياه، هناك...

تابعت ببلادة وارتجاف طفلها الأول يغادر رحمها ومعه شعرت بأن أصوات الصبية في ساحة الدار توقفت عن التحليق في روحها، وأن سماء الصغيرة تبكي طائرتها الورقية، وأنها مثلها فقدت الخيط الذي يربطها بالسماء.

الثلاثاء، 8 يوليو 2008

اقتحام



حلقات من الدخان الأبيض تراقص الهواء بغنج، تتمايل متلاشية في ظلمة المكان، تاركة خلفها ابتداء بعث جديد.


هواء بارد ينسل على أطراف أصابعه ليلمس المرآة والكراسي والأدراج وحتى مفكرة سرية تُركت مفتوحة، ومداداً أزرق يغلف سطراً بحروف صغيرة مرتبة.


يشق الضوء طريقه، ثابتاً وقصيراً إلى ملامح الغرفة المتخفية، يرفع ذقن السرير الفارغ، يكشف تعرجات رداء النوم الحريري الملقى على طرف السرير، ينساب بهدوء خبيث ليعيد للأشياء دفأها، ويفصل بإحساس غيور العناق الحميم ما بين الظلمة وتكوينات الغرفة التي تخلت عن ذاتها لساعات متلاشية في السواد.


عبثاً يمدّ الليل أطرافه، لكن الضوء وبلا رحمة يدفعه إلى الخارج، ملتفتاً إلى غنيمته، شيئاً فشيئاً ينحل تردده، يضع يده على كل شيء، تلتمع عيناه، تجيء أصوات البلابل تحاول إشاعة البهجة والتغلب على ضجته المفتعلة، غروره... وربما تواطأت معه على إخفاء ما يحدث.



الزائر الصباحي الماجن يتحول إلى طاغية، يقلب الأشياء ويحيل المكان إلى ...وضوح.