الجمعة، 5 سبتمبر 2008

المفتاح



لمن الجأ اليوم يا أمي ولمن أتوجه بالبكاء؟ .. لست أعشق الموت ولا أريد أن أحيا بهذا الخراب. الروح تختنق ووجه الشمس يبتعد في غيوم بلهاء ترسم أشكالا مبهمة، يقول البعض أنها رسم سريالي بينما يدعي آخرون أنها وجه آخر للحرية.

لمن أتجه بالبكاء والقلب يحترق كلما حاولت اللجوء إلى عينيك المفعمتين بالصدق، رغم كل تلك القسوة، رأيتك مرارا تبكين صامته على وسادتك المزركشة بأزهار وطيور وتعجبت كيف أنك استطعت أن ترسمي كل ذلك الجمال بيدين لم تعرف الرسم أو الكتابة، أذكر بهجتك الطفولية عندما أعطيتك دفتري الصغير وقلت لك هذا هو اسمك وهذا اسم بلدنا، وضعت حينها يدك على الوطن

وقلت : هاي بلدنا ؟

وكأنك تستغربين أن تكون الكلمة بهذا الحجم المحايد الصغير، آه يا أمي، كلنا نبدأ أكبر من ذواتنا وتسجننا الأسماء في مغلفات صغيرة تشبه الرسائل الخادعة، الرسائل المكتوبة على عجل كالتلغراف، لقد كرهت الرسائل حين فقدت طعم الحريق، أنت لا تعرفين كيف تكون الرسائل بطعم الحريق لأنك لم تجربي الرسائل القاتلة أو المحلقة كالطيور..


لكن لماذا أحدثك اليوم عن الرسائل، وأنا أود الحديث عن الدموع، عن البكاء المسجون في روحي منذ الأزل، عني وعنك وعن هذا الزمان المحاصر، لقد رأيتك طويلا تحاولين أن تفهمي ما هو الحب ولم تدركي أن رغيف الخبز المجبول بالعرق.. أن ثوبك الدافئ الذي تمسكت به طويلا وأنا صغيرة كان هو كل الحب.

لكن الزمان الذي يعجننا كأدوات طيعة أصبح زماناً بلا مشاعر، ها أنا اليوم وبعد ثلاثين عاما من الغربة والضياع أجمع أشيائي الصغيرة وأحتار إلى أي الجهات علي أن أسير، إلى أي الدروب.

حزمت أمتعتي، وتركت دفتري الصغير، الدفتر الذي حاولت أن أعلمك فيه الكتابة لأجعلك تدخلين إلى عالم الكلمة الرائع، لكنك فشلت في هذا وقلت أنني لا أجيد سوى الاعتناء بكم، لكنك كنت تجيدين كل شيء حتى الكتابة..

الكلمات التي تتدحرج على السطور كلما احترقت روحي هي أنت يا أمي، الوجه الذي أراه كلما تراءى لي الوطن البعيد هو وجهك، لكنك اليوم بعيدة، أجمع أشيائي كلها وأترك في الزوايا بعض الذكريات، تركت له أيضا رسالتي الأخيرة لأنني لم أعد أجيد الحب المفتعل، لم أعد أستطيع أن أمارس جنوني المسجون خلف هذا الموت.


طلب مني أن أبقى وأن نحاول إنجاب طفل آخر، لكن كيف أفعل ذلك وأنا لم أعد قادرة حتى على الحلم، أنت قلت لي يا ابنتي المرأة لزوجها، وكنت له.

تركت نفسي تسير كالمسحورة معه، ولم أصغ لصوت الفتاة الصغيرة في داخلي، في ذلك اليوم همست لي مرارا اتركي كل شيء واذهبي، عرفت أنني لا أنتمي إليه أو إلى أي مكان في هذا الجحيم لكنني لم أصغ، أنا أعرف أنك أنت أيضا لم تصغي، أتذكرين تلك الكلمات التي قرأتها لك ذات يوم عن امرأة كرهت البحر؟


أنا أكره البحر يا أمي، رغم روحي المشتتة في الزبد، أكره البحر الذي امتنع عني، المرأة التي كرهت البحر كرهته خوفا منه أما أنا فكرهته لأنني أفتقد طعم المغامرة، لماذا يا أمي أكره الهدوء، لماذا لا أكون مثلك، لماذا لا تنقلب الجرة في عرفك لماذا ؟


كان المفتاح القديم معلقا كالتعويذة في عنقك، يسقط أمامك كلما انحنيت ويسرق منك طعم البسمة الزائفة، المفتاح الذي وعدتني به، قلت هو لك وهمست لك لا أريد سواه.

المفتاح يحز رقبتي كلما أمعنت في هذه الحياة، زوجي تذمر منه مرارا، قال :- أريدك عارية في فراشي، لكن المفتاح بقي ما بيننا حتى انتهت حياتنا بالطلاق، أنا لا أخاف كلمة الطلاق مثلك يا أمي، كنت تقولين الطلاق خراب كبير، لكن الخراب الأكبر أن نمضي بهذه الحياة بلا أمل ، زوجي كره المفتاح فشعرت أن ما بيننا أكبر من كل الأبواب التي تركناها خلفنا، هاهي أشيائي الصغيرة ، بعض الدفاتر والأقلام والذكريات والرسائل، بطاقات دخول وكتيبات صغيرة.


أحب أن أجمع الذكريات وكأنني أخاف الموت، هذا ما أدركته مؤخرا وهذه الفكرة لم تعجب زوجي، قال أنت تحبين الأشياء القديمة فحسب لكنه كرهني حقا عندما أخبرته أن إحدى هذه الأشياء القديمة كانت ذكرى حب أول، الحقيقة يا أمي لم أكن أجرؤ أن أجرح أي إنسان لكنني في ذلك اليوم قررت أن علي أن أثأر لكن ممن ؟ لم يكن هناك حب أول، وليس من المفترض أن يكون، هناك حب فحسب، اجل يجب أن نحيا بالحب، فلماذا نصنفه أولا وثانيا وعاشرا.


أتذكرين عندما أخبرتك بأنني لم أعد أؤمن بالحب لأنه لم يأت، ولم تفهمي كيف لم يأت وأنا على وشك الزواج، أنا الآن أبتسم رغم دموعي، يستطيع الحب أن لا يأتي ونستطيع أن نتزوج وننجب ونكبر حتى الموت، أنت مثلا كرهت كل المزاح السخيف الذي مارسه أبى ضدك، وكرهت تأخره بلا سبب، كرهت تذمره من الطعام الذي تطبخينه، كرهت رائحة التبغ في أنفاسه، وكرهت طريقة حديثة معك أمام الناس، لم يأت الحب ومع ذلك أتينا نحن، ولم تحتج مرة واحدة، مضيت بالحياة حتى آخرها، أما أنا يا أمي فلا أصلح لهذا التراث الهائل من الصمت والحزن، أنا لم اعد أطيق الدموع، زوجي لم يعد يفهمني بل لم يعد حتى يرغب بالمحاولة وعوض أن يبحث عن مخرج، يريدنا أن نأتي بروح أخرى لهذا الحياة.


لكن لماذا أحدثك الآن بهذه الكلمات؟ بالأمس رأيت الوطن، كان على وجه إحدى المحلات صورة قبة ذهبية وطفلا يحمل حجرا، نحن يا أمي نتحول إلى رموز حين نحلم بالحياة، هل علينا أن نحيا صورا فقط ؟ أنا لن اسمح لإبني بأن يتحول إلى رمز، أريده قلبا نابضا، الموت لا يناسبنا يا أمي، طفلي سيسامحني لأنني رفضته الآن، لأنني اخترت له أبا لم يدخل حياتي بعد، واخترت له حياة أكثر قسوة، أجمع أشيائي يا أمي لأنني لا أنتمي لهذا المكان الميت، أجمع شتات روحي وأمضي، مفتاحك في عنقي يأخذني كالضبع إلى مغارته السرية، وأنا أرفض أن أضرب رأسي بباب المغارة.

أتذكرين يا أمي، الدم ينقذنا من مصيرنا المحتوم بين أنياب الضبع، أنا ارفض الدم لأنني أرفض النجاة ، أسير خلف مفتاحك وكأنه حقيقة الكون من حولي، أترك الوهم والصمت، أترك البيت الذي سجن روحي، والرجل الذي لم يستطع أن يحبني رغم أنه أخذني مرارا، وردد الكلمات كالشعار، أنا يا أمي امرأة متوحشة، أخذتني الحياة إلى تجارب عديدة، لا أؤمن إلا بما أشعر، قلبي يتسع للمأساة والملهاة ويتسع للحب أيضا، أنا أحب يا أمي ، أحبك وأحب الحياة والناس وهذا الباب الذي لم أر منه سوى مفتاحه القديم، يا أمي عليك أن تغضبي مني الآن، وأن تجعليني أطلب منك السماح، عليك أن تقولي أنني مجنونة لأنني تركت زوجا هادئ الطباع لا يشبه أبى، وبيتا واسعا، أنت تحبين البيوت الواسعة، أعرف لأنني أعرفك تماما، عليك يا أمي أن تقولي ما تشائين، أن تغضبي وأن تنعتيني بالخبل والجنون، أرجوك يا أمي اصرخي بي، فأنا أستطيع أن أسمع صوتك، الشوارع المكتظة لا تخفي صوتك ولا حتى دوي الطائرة أو دموعي، يا أمي احكمي علي بالعودة من حيث أتيت، اقتليني بهذه الغربة التي اغتالت روحي، اصرخي بي يا أمي أرجوك حتى لا أمضي كالمذعورة إلى بابك القديم وأجلس هناك أنتظر إلى الأبد حبا لا يجيء.

ليست هناك تعليقات: