الخميس، 31 يوليو 2008

انعتاق


توغِل الصحراء في روحه، يتسلقهُ الوجع، يفرّ الحلم مبتعداً...ويبقى صوت أمه يشرع في داخله عوالم من عبيرٍ وألم، ظنّ أنّ لـه خلف الحدود وجهاً ليقتنصه، ويعود بالماء وربيع الحقول، لكن الحدود اقتنصته، وهبته للضياع وغادرت.
فشلت الرصاصات في قتله، وتركت الرمال تكتب سيرته، ترسم تفاصيل الوجه والأصابع والشفاه، فما عاد يقدر على المقاومة، خارت ساقه الأولى ثم الثانية، ضمته الصحراء إلى صدرها بحنو رمال متحركة، هي النهاية إذن !!
عاد ظلّ روحه إليه، هل انتهى أمره ؟ فكّر بلا حماس، وأغمض عينيه . فاطمة تشرع أبواب القلب وتأتي، تسأله عن حاله، لكن دون إجابة يأخذ صورتَها إلى غفوته ويبتعد .
صوت رجل : ميّت ؟!
صوت امرأة : لا.
صوت امرأة أخرى : لنمض ..
الأصوات تأتي من مكان بعيد ..
ينصت، لكنّ الأصوات تختفي، فترتفع روحه إلى أعلى، تحاول عيناه الوثوب نحو أفق أرحب، تحاول أخذ حصتها من هذا الوجود، فتحصل على ظلٍّ باهت لوجه يشبه وجه فاطمة لكنه أكثر نضارة وجنوناً.
- يتحسن ؟
- يقاوم .
- ......
صوتان، أما الثالث فيثيره أكثر، يوجعه حتى في صمته، يتململ، يحاول اجتياز الظلمة، يفلح في اقتناص شعاع من الضوء ولمسة يد حانية، وينطفئ من جديد، غيمة رمادية تحلّق في ثنايا الدماغ، تمهّد له سبيل الفرار.........
- شفي ؟
- سيشفى
-.........
أصابعه تحاول عبثاً القبض على الهواء، لكنها تبقى واهنة تتخذ تقوّساً طبيعياً لا يستطيع تغييره، يحاول بحدّة أن يخرج إلى الفضاء الآخر لكن إخفاقه يقتله، توجعه الأصوات، والسواد يحيطه، يغلّفه من الداخل، غابت فاطمة وتقمّصت شكل يد حانية على الجبين المتعب. غابت لتزرع في نفسه الشكّ من الصوت الذي اختفى . مَن هؤلاء الناس .....؟
- .......
- سينجو .
- ......
يد صغيره تزرع جبينه بالبرودة والدفء في آن، وأخرى تتحسّس صدره وكأنّها تبحث عن قلبه، أو.....، يد تأتيه عندما يكون متعباً أكثر أو عندما لا تعود فاطمة إلى جانبه في عتمته المرّة، يد معربدة، ماكرة ........ وخائفه، تقترب بعهر وتتراجع بسرعة عند أقل الأصوات.
- لنمض .
- إنّه يقاوم .
- لنبق .
تشتبك الأصوات، تتصارع مبتعدة، هو ليس هناك، ولكنهم يتجاذبونه ..
- هل مات ؟!
- لا لم يمت .
- .......
فاطمة تخرج من ذاكرته لتحتلّ مكانا بينهم، يناديها فلا تجيب، ولا تعود ذاكرته قادرة على استعادتها، يصاب بالفزع. تبتعد الأصوات، تبدأ عيناه مقاومة شرسة: فاطمة ... يصرخ بلا صوت، يفتش في غيمته الرمادية، ينبش الأفق المغلق أمامه، ويجزع حتى ... الانعتاق ..
يسقط في حدقتيه شعاع، فيحجب عنه الأفق لثوان، ينفصل عنه ظلّه، روحه تهرول نحو الذبول، الحدود تعود ثانية لتئد الحلم، خيمة متهالكة وإناء ماء نصف فارغ. فاطمة ليست هنا، اليد الحانية تركته للموت، حتى اليد الأخرى والصوت،كلّهم تركوه، يصيبه الفزع ، فتغضب عليه الريح تهدّده بالمضي مبتعدة بخيمة وإناء ماء نصف فارغ وظل ما عاد يعرفه.

ليست هناك تعليقات: