الخميس، 24 يوليو 2008

طائرة ورقية




مساء آخر يغرب مخلفا وراءه رائحة الحنين لشيء غير غائب، ساحة الدار الأمامية تضج بالصغار وأحاديث النساء، المساء مسح وجه الضجيج بنوع من الشجن وأعاد الأصوات إلى الحناجر ليوم آخر. سعدة وحدها تردم سكون الليل بمكنسة قديمة وكأنها تحاول أن تعيد للساحة وجها آخر غير هذا الصمت. تمسك إبريق الماء وتسكبه في الجهات وكأنها تبحث عن وجه ما .. عن أفق، أفق يعيد بهجة الصغار إلى ساحة البيت، تلقي بالماء بعيدا فيصل إلى أسفل الشجرة الوحيدة التي تتوسط البيت، فتذكرها بحماتها التي آثرت أن تجمع أولادها حولها وعائلاتهم، فتشعر بالذل.


تترك المكنسة والإبريق وتدخل، المكان يبدو أكثر ضيقا وأكثر وحشة، زوجها لم يصل بعد، بطنها المنتفخ يصيبها بالوهن الحزين، تقدمت ببطء لتغسل جسدها مما علق به من تعب هذا اليوم، كانت أصابعها ترتجف وكأنها ستخلع عن جلدها عباءته الآدمية، الثوب المطرز الذي أحضرته من بيت أبيها كالتميمة، ملابسها الحميمة، جسدها الذي أخفته طويلا لتهبه خالصا لأبي العبد، ..جرحتها التسمية، أجفلت، رمت كل ملابسها دفعة واحدة وانحنت لتشعل النار، كانت تجلس عارية تفكر بلا شيء، تطالع أصابع قدميها، أو نافذة الحمام، الباب الخشبي الواهن، صوت الليل .. تأخر بالمجيء، منذ أن علم بالخبر أصبح يتأخر بالمجيء حتى لا يطالع نظرات أمه، وخيبتها، مدت يدها إلى بطنها المنتفخ واحتضنته فبدا وجهها يعاني ألما رهيبا، كانت ترتجف دون أن تعي، تذكرت قطعة العجين التي وضعتها أعلى الباب، كيف تتحول النطفة إلى جسد، والرحم إلى قبر، أجفلها صوت الماء يغلي فارتبكت قليلا، تحركت لتبدأ في سكب الماء على رأسها وجسدها ، الماء أو الدموع من منهما الحقيقي ؟ من يكسو وجهها بهذه الحميمية، لم تدرك كم مر من الوقت حين سمعت صوت الباب الخارجي، مرت ثلاث سنوات على يومها الأول معه، كان متحمسا وكان ينظر إليها وكأن جسدها يفاجئه، انتشلها صوت زوجها من أفكارها.

النافذة تسكب ضوء القمر الشاحب أمامها على البلاط، وجسدها يبدو لها سجنا منفصلا عنها، اخفت خيبتها وجسدها وخرجت

:- أعد العشاء ؟

:- لا.

أرادت أن تقول له شيئا، أي شيء يحطم الجدار الذي بدأ ينمو ويلقي بظلاله عليهما، لكنها طالعت يديه المعروقتين فاستوقفتها أصابعه، يديه التي أحاطت بها مرارا وجلبت لها الخبز والخضار، طال الصمت وسقط كضيف ثقيل فانسحب إلى النوم وبقيت سعدة تتأمل تعاريج ارض الغرفة وأصوات الصبية الذين هجعوا للنوم وبقيت همساتهم تؤنسها، تأملت في خيالها وجوههم جميعا، سماء الصغيرة التي تقود ببراءة شديدة الدمع للمآقي دون أن تدري، سماء التي بكيت طويلا على طائرتها الورقية التي غزت الأفق مرارا قبل أن يفلت الخيط من يدها وتضيع منها بهجتها، سماء التي قالت لها وهي تضع يدها على بطنها المنتفخة

:- ماذا يفعل في الداخل؟

:- الداخل ؟

:- سألعب معه عندما يخرج.

(حسن يضحك من أخته)

:- بلهاء

:- سألعب معه رغما عنك.

:- بلهاء

الأصوات تواكب ساعات الليل، وسعدة تشعر بقلبها المرتجف يخنق النبضات حتى لا يشي بكل ما به من هلع، بقيت تحدق بوجوه وأمكنة لا تخضع لقانون هذا الجدار الباهت حتى أتاها صوت زوجها

:- لم تنامي طوال الليل ؟

:- سنذهب الآن ؟

:- نعم .. المكان بعيد

ارتدت ملابسها على عجل ووضعت له قليلا من الخبز والجبن فأخذها وخرجا، لم تلمح احد، البلاط كان لا يزال رطبا من قطرات سكبتها السماء بالأمس، ووجوه الصغار لا تزال مختبئة تحت الأغطية، غير أن سماء على غير عادتها حضرت مسرعة للباب

:- سيأتي اليوم ؟

كانت ملامحها التي لا تزال مغلفة بالنعاس وشعرها الأشعث يثيران في نفس سعدة شعورا مريرا ويعتصر قلبها بألم لم تدر إذا نجحت في إخفائه.

:- ارجعي للنوم حبيبتي .

ربتت على رأس الصغيرة. نظر أبو العبد إلى سعدة، فتح الباب ثم لحقت به الطريق بدا دهريا، الباص يصعد منحنيات ويتحرك بضجيج جعل جسدها يلتصق بجسد زوجها فشعرت بمرارة طاغية، لم يتحدثا طوال الطريق . كان جسدها يلتقط من جسده كل ما يود قوله فانكمشت على حزنها أكثر. توقف السائق قليلا ليصعد أو ينزل بعض الركاب، وكلما اقترب من المكان شعرت بالخوف يعتصر روحها، عند باب المشفى كادت تسقط من الرهبة، احتضنت بطنها بطريقة لا إرادية وأمسكت بذراع زوجها وكأنها تستنجد به، لكنه تقدم بعد أن رمى سيجارته الرابعة في وجه الطريق.

:- ماذا سيفعلون به؟

:- ....

طلبت منها الطبيبة الانتظار قليلا

:- كنت أتمنى لو أنه نزل طبيعيا .. لن تعاني طويلا...

لم تتابع تصريحات الطبيبة، شعرت بوهن حاد. أسرعت لدورة المياه، هناك...

تابعت ببلادة وارتجاف طفلها الأول يغادر رحمها ومعه شعرت بأن أصوات الصبية في ساحة الدار توقفت عن التحليق في روحها، وأن سماء الصغيرة تبكي طائرتها الورقية، وأنها مثلها فقدت الخيط الذي يربطها بالسماء.

ليست هناك تعليقات: